عناصر الانقلاب تتكامل

في خريف العام الفائت 2022، عندما تعثرت الانتخابات الرئاسية، ترسَّخ الانطباع بأنّ الانهيار سيدخل مرحلة أكثر شراسة، بل أنّ البلد سيدخل انعدام توازن لن يخرج منه إلاّ بتسوية شاملة مدعومة خارجياً. واليوم، تبدو الهواجس أكبر. فبين الصيف الجاري والشتاء الآتي، ستكون المؤسسات كلها أمام التحدّي، ولا سيما منها مؤسستا الأمن والمال: الجيش ومصرف لبنان المركزي.

بالتأكيد، ليست هناك فرصة لانتخاب رئيس للجمهورية في الأشهر القليلة المقبلة، لأنّ الاهتمام بهذا الملف تراجع داخلياً وخارجياً. فالفرنسيون تعبوا من التفاوض على جبهات متعددة، بلا نتيجة. والمهمّة الجديدة التي تسلّمها الوسيط جان إيف لودريان، في سياق تدعيم العلاقات مع المملكة العربية السعودية، ليس مضموناً أنّها ملائمة لتسريع التسوية في لبنان.

وعلى العكس، هذه المهمّة قد تستدعي درايةً استثنائية وطارئة، تكون فيها الأولوية لصون العلاقات مع المملكة، والهدف الأول هو تمكين فرنسا من تحقيق أكبر هامش من المصالح. وفي هذه الحال، سيصبح الملف اللبناني تفصيلاً في مشاغل الفرنسيين، ويصبح الملف الرئاسي تفصيلاً في تفصيل. فصحيح أنّ هناك مصالح حيوية لفرنسا في لبنان، تحرص على صونها، لكنها لا تُقاس بحجم المصالح التي تربطها بالمملكة.

وبدا واضحاً في الأيام الأخيرة، أنّ الملف الرئاسي والتصوُّر للتسوية اللبنانية هما مثار خلافات حادة داخل لجنة باريس الخماسية، والتي باتت واقعياً لجنة الـ5+1، بعد إضافة إيران إليها في شكل غير مباشر. فالولايات المتحدة لا تتراجع عن تصوُّرها لهذه التسوية، وكذلك السعودية وقطر ومصر. وفي المقابل، يتمسّك الإيرانيون بطرحهم، ويضيع الفرنسيون في خضم التناقضات.

 

وأما في الداخل، فانتقل الاهتمام إلى الشغور الثاني المنتظر، نهاية الشهر الجاري، في حاكمية مصرف لبنان. ففي ظلّ عدم القدرة على تعيين حاكم أصيل، خلفاً لرياض سلامة، ثمة خشية من وقوع الحاكمية في وضعية إرباك أو شلل حتى انتخاب رئيس جديد للجمهورية. بل إنّ البعض يتوقع، بعد انتخاب الرئيس، معركة سياسية- طائفية- مذهبية للسيطرة على موقع الحاكمية وقرار المصرف المركزي، كما المواقع الأساسية الأخرى في الدولة، وهي متعددة.

فإذا استمر الفراغ، أو الشغور، الرئاسي على مدى الأشهر المتبقية من هذه السنة، سيكون هناك فراغ آخر في الانتظار، وسيكون أكثر خطورة، وهو الفراغ في موقع قائد الجيش. ففي نهاية كانون الأول المقبل، سيكون التحدّي الأكبر هو تعيين قائد جديد، خلفاً للعماد جوزف عون. وليس مضموناً أن تكون تلك العملية أسهل من عملية ملء الفراغ في مصرف لبنان. وإذا حصل هذا الفراغ، مطلع سنة 2024، سيكون لبنان قد دخل بكل مؤسساته في وضعية الإرباك وعدم اليقين وفقدان الشرعية.

 

ففي هذه الحال، سيكون لبنان بلا رئيس للجمهورية، وبحكومة تصرّف أعمال، وبمجلس نيابي شبه مشلول، وبمصرف مركزي يبحث عن حاكم أصيل، وربما جيش يبحث عن قائد أصيل. كل ذلك فيما الإدارة العامة تتخبّط بلا هوادة في وضعية الشلل. في السنوات التي سبقت انفجار الأزمة، في العام 2019، كان يُقال إنّ مؤسسات الدولة اللبنانية منهارة كلها من الداخل، وإنّ الضمان الوحيد المتبقّي لصمود الدولة هما الجيش ومصرف لبنان، أي الاستقرار الأمني والمالي- النقدي. واليوم، انهار الوضع المالي والنقدي تماماً، ولم يبقَ للبنانيين سوى ضمان الأمن، فإذا تزعزع هذا الضمان ستسقط آخر دعائم الاستقرار التي ترتكز إليها الدولة، ولو أنّها موجودة شكلاً.

هذا يعني أنّ لبنان، في ظلّ عدم القدرة على انتخاب رئيس للجمهورية، سيدخل نفقاً أشدّ خطراً في الأشهر المقبلة، وقد يشهد نوعاً جديداً من تفكّك الدولة. فالفراغ الرئاسي القائم اليوم يفوق بمخاطره فراغ 2014- 2016 الذي انتهى بوصول العماد ميشال عون إلى الحكم. وفي مطلع 2024، قد تكون الدولة اللبنانية في وضعية تفكّك تستدعي جهوداً خاصة ومضاعفة لإعادة تركيبها.

 

وعملية إعادة التركيب يصعب أن تتمّ من دون إدخال تعديلات على قواعد اللعبة، أي من دون دخول اللبنانيين والقوى الخارجية في مفاوضات أو مساومات، يتوافقون في نهايتها على صيغة جديدة لممارسة السلطة وتقاسمها بين القوى السياسية والطوائف.

 

وعلى الأرجح، وفي ظلّ الظروف السائدة، سيؤدي ذلك إلى إحداث انقلاب في القواعد القديمة. فالتسويات التاريخية تكون عادة نتاج توازنات القوة السائدة في لحظة معينة، أي إنّ الانقلاب الحاصل اليوم على الأرض سينعكس انقلاباً داخل الدولة. فهل يكون هذا الانقلاب مخطّطاً له؟ وهل هذا هو السبب العميق لتطيير الاستحقاقات كلها، الواحدة تلو الأخرى؟